حقيقة الصيام.. تحولات النفس وقوة الجسد

إن الفهم الواعي لحقيقة الصيام يوجهنا لأن نسعى لنفتح لهذا الشهر الكريم قلوبنا ليحررها، فرمضان هو شهر ثورة النفس على النفس وعاداتها، وهو شهر الفقر الإجباري الذي يعلم الرحمة ويدعو إليها.

ولم أجد تعبيراً أدق عن هذا المعنى من مقال للرافعي تحت عنوان (شهر للثورة.. فلسفة الصيام) الذي يقول فيه: "إن الصيام فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة، وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو لها، ومن قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وعلى نظام وعلى فجأة". (انتهى كلام الرافعي).

إنني إذ أقرأ هذه الكلمات، أستشعر أن من موجبات تحقيق أعمال الصيام في النفس إحداث هذه الثورة.. ثورة على النفس تعلي صوت الروح على همهمات مطالب الجسد، وتعلي صوت مطالب الأمة على وساوس مصلحة الفرد، إنها ثورة تعلم الرحمة وتعبر بها من داخل النفس إلى مشارق الأرض ومغاربها.  

لكن المظاهر المطلوبة لثورة النفس على الجسد، لا تعني إضعاف هذا الجسد، بل هي في معنى من معانيها تهدف إلى ألا يستسلم هذا الجسد للكسل والخمول أثناء الصيام، لكننا بخلاف ذلك فنحن في رمضان وللأسف الشديد نرى شريحة كبيرة من أصحاء وأقوياء المجتمع يُخرج الصوم منها الكسل والخمول، فيؤثرون السكون والراحة والنوم أثناء الصيام ما وجدوا لذلك سبيلا، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً ويحسبون في ذلك منفعة لهم وتوفيراً لطاقاتهم ومحافظة على صحتهم، وهذا مخالف تماماً للحقائق العلمية. 

إن للحركة والعمل والنشاط أثناء الصيام في الأشخاص الأصحاء فوائد عظيمة.. جسدية (فسيولوجية) وعقلية وروحية، فمن الفوائد الجسدية أن الصيام الإسلامي يساعد على التخلص من سموم الجسم وتحريك وحرق المخزون الدهني، بالإضافة إلى تنشيط عمل بعض الوظائف التي قد تكون خاملة طوال العام، كما يحقق الراحة لبعض أعضاء الجسم التي تعمل طوال العام بدون راحة مثل الجهاز الهضمي (المعدة والأمعاء).

إن الحركة والنشاط يحققان ما لا يحققه السكون والخمول والكسل أثناء الصيام، فالحركة العضلية في فترة ما بعد الامتصاص الغذائي (فترة الصيام) تؤدي إلى أكسدة أنواع معينة من الأحماض الأمينية للاستفادة من الطاقة الناتجة عن هذه الأكسدة، وبعد استفادة العضلات من هذه الطاقة يتكون حمض أساسي من هذه الأكسدة يدخل في تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد، ويسمى هذا الحمض (الألنينAlanine )، وبذلك فإن عملية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد تزداد بازدياد الحركة العضلية. 

وبعد استهلاك الجهاز العضلي للجلوكوز القادم من الكبد للحصول على الطاقة، يتجه الجسم إلى الدهون (المخزون الدهني) فيقوم بأكسدة الأحماض الدهنية وتحريك وتحليل وحرق الدهن في الأنسجة الشحمية، وبهذا فإن الحركة أثناء الصيام تعتبر بمثابة عمل إيجابي وحيوي يزيد من كفاءة ونشاط عمل الكبد والعضلات ويخلص الجسم من السموم والشحوم، وهذا ما يسمى بعملية (الهدم Catabolism) وبدون هذه العملية أثناء الصيام لا يتم التخلص من الشحوم والسموم في الجسم.

وفي الحركة العضلية كذلك تثبيط لصنع البروتينات في الكبد والعضلات (عملية البناء Anabolism)، وهذا بدوره يوفر طاقة هائلة كانت تستخدم في تكوين البروتينات لو أن الصائم قضى يومه نائماً أو ساكناً، علماً أنه في حاجة إلى هذه الطاقة أثناء صيامه. 

وبشكل عام فإن الحركة أثناء الصيام تقوم بدور تنشيط عمليات الهدم أثناء النهار، فتتحرك الطاقات المختزنة وتنظف الأعضاء من السموم المتراكمة في الأنسجة الدهنية.

والنوم والكسل والخمول أثناء النهار تعطل هذه الفوائد وتعطي الجسم إشارات خاطئة تؤدي إلى استهلاك الطاقات في صناعة البروتينات، بدلاً من إبقائها في صورة قابلة للاستعمال السريع ومتاحة للصائم للاستفادة بها أثناء صيامه، كما يبقى المخزون الدهني والسموم كما هما في الجسم.

أضف إلى ذلك أن النوم أثناء النهار والسهر طوال الليل في رمضان يؤديان إلى اضطرابات في عمل الساعة البيولوجية في الجسم، حيث إن هناك هرمونات محددة تقوم بتحفيز أعضاء الجسم على الحركة والنشاط تكون في أعلى مستوياتها في الفترة الصباحية وأقلها في الليل مثل هرمون (الكورتيزون Cortisol).

وهناك هرمونات أخرى تساعد على الارتخاء والنوم، وتعلم الجسم أن وقت الراحة والنوم قد حان، تكون في أعلى مستوياتها في الفترة المسائية مثل (هرمون الميلاتونين (Melatonin، ويؤدي تحويل الليل إلى نهار وتحويل النهار إلى ليل لاضطراب وتعطيل لهذه الهرمونات واضطراب للجسم بشكل عام.

أما فيما يخص العقل فإن المسلم الذي يقضي يومه نائماً غير عامل وغير ممارس لحياته اليومية بكل ما فيها من اختبارات وابتلاءات وتحديات ومشاكل وعراقيل، يفوته أحد أهم مقاصد الصيام وهو تحقيق التقوى وكسر الشهوات بكل صورها والتحكم في الجوارح والتدرب على الارتقاء في التعاملات بروح وأخلاقيات الصيام، نعم تفوته فرصة تدريب العقل على تطويع جوارح الجسد وشهوات النفس لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وفيما يتعلق بالروح، فإنه لا شك بأن الصائم العامل بجد في نهاره يستشعر لوعة الجوع والعطش أكثر من الصائم الخامل النائم، فتبعث هذه اللوعة في فؤاد الصائم الإحساس بالضعف وتجسد له صورة من صور الحرمان فتذكره بافتقاره لربه وعبوديته لخالقه.

د.وليد فتيحي

احصل على الرعاية الصحية المناسبة لك ولعائلتك

(السبت - الخميس من الساعة 08:00 صباحاً إلى الساعة 10:00 مساءً)