ابنوا سفينة نجاتكم.. فقد فار التنور والطوفان قادم

صلوا في رحالكم.. 
ابنوا سفينة نجاتكم.. فقد فار التنور والطوفان قادم 
ننجو جميعاً.. أو نغرق جميعاً 

هيكل عظمي يتحرك لطفل ما زال فيه بقية من حياة في مكان ما في أفريقيا يبحث عن فتات خبز وقطرات ماء.. ونسر على مقربة منه ينتظر وليمته.. وعلى بعد أمتار منهما مصور صحفي يلتقط صورة ستكون صفقة العمر التي ستجعله مشهوراً ثرياً ليعود إلى بلده المتحضر ويجني ثمار عمله الرائع. 

أجساد صغيرة لا تكاد ترى فيها إلا الرماد، قد حددتها خيوط الدماء تُرفع من تحت الأنقاض كما وصفهم الشاعر الإنسان تميم البرغوثي:

رماديِّونَ كالأنقاضِ شُعْثٌ تحدَّدُهم خُيوطٌ الأرْجُوَانِ
يَدٌ لِيَدٍ تُسَلِّمُهم فَتَبْدُو سَماءُ اللهِ تَحمِلُها يدانِ
يدٌ لِيَدٍ كَمِعراجٍ طَوِيلٍ إلى بابِ الكريمِ المستعانِ
يَدٌ لِيَدٍ، وَتَحتَ القَصْفِ، فَاْقْرَأْ هنالكَ ما تشاءُ من المعاني

صرخات بكاء، تصدر من النفايات، لرضيع لم يتجاوز عمره يوماً واحداً تخلت عنه أمه خشية الفضيحة والعار. 
أجساد أطفال شبه عارية لمتسولين لفظهم المجتمع، تفترش ليلاً الزوايا المظلمة لأشهر وأغلى شوارع العالم المتحضر، والبرد القارص يقرض أجسادهم النحيلة، والأثرياء يمرون بجانبهم ولكنهم لا يرون إلا الأشياء الثمينة المعروضة من وراء الزجاج النقي الشفاف للمحلات الفاخرة.

أطفال أُغلقت أبواب المستوصفات والمستشفيات والمدارس في وجوههم لينتهي بهم الأمر بعاهات جسدية وعقلية ونفسية واجتماعية وليدفع المجتمع ثمن حرمانه لهم ضياعاً وفساداً وجرائم ضد الإنسانية التي حرموا منها. 
فلنعد للوراء قليلاً ولنبدأ القصة من أولها. 

من هناك.. 
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ". 

ولكن الله الأعلم أكد أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة. 
(إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). 

إلى كل من يؤمن بأن هناك رباً خالقاً مهيمناً مسيطراً يدبر الأمر من السماوات إلى الأرض وذكر قوله سبحانه وتعالى :

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ). 

إلى كل من يؤمن بأن الخالق لم يخلقنا عبثاً وتذكر قوله تعالى: 

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).

إلى كل من يؤمن بأنه كلما تجاوز الإنسان حده وطغى تدخلت القدرة الإلهية بحكمتها لتذكر الإنسان بدوره الحقيقي في رحلته القصيرة على وجه الأرض ولتعيد له بعض إنسانيته وتوازنه وتخفف من وطأة ظلمه وفساده في الأرض، فرأى الحياة كلها وقد تعطلت.. دور العبادة من مساجد وكنائس ومعابد ودور العلم من مدارس وجامعات ودور الأفراح ودور الأتراح والمطارات والمطاعم والأسواق وانهيار الاقتصاد. وذكر قول الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون). 

إلى كل من رأى دور العبادات في الأرض وقد أوصدت أبوابها وخلت من عبادها فانكسر قلبه خشية أن يكون الله غاضباً علينا فطردنا من بيوته وأوصد الأبواب في وجوهنا، فهو الغني عنا جميعاً ونحن الفقراء بين يديه. 
وذكر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ). 

إلى كل من رأى الإنسان قد تجبَّر وطغى. 
فلم يصبح همَّ وقضية إنسان اليوم محاربة الفقر والمجاعات والأمراض وإنما أصبح الهم الشاغل لشعوب العالم هو التسابق لتعظيم المكاسب المادية ولو على حساب شعوب أخرى وتكديس السلاح وإزهاق الأرواح.

وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ﷺ: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟

‫وتذكر رسول الله وهو يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك.. ما أعظمك وأعظم حرمتك.. والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه). 

إلى كل من رأى إنسان اليوم قد فقد إنسانيته وأصبح هو المرض العضال الذي أفسد الأرض والماء والسماء. ثم رأى كيف بدأ العالم يستعيد بعضاً من إنسانيته وقد أصابه الخوف والجزع من هذا الفيروس القاتل متناهي الصغر والضآلة.

فتذكر قوله تعالى: 
"وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ"  

أغلقت أبواب دور العبادة لكل أهل الأرض باختلاف أديانهم وعقائدهم ومعتقداتهم وألوانهم. 

فما هي الرسالة التي تحملها لنا أيها الفيروس الصغير الذي أسميناك كورونا؟ 

اسأل نفسك أخي المؤمن وأختي المؤمنة بالله هذا السؤال مراراً وتكراراً. 
لعل رسالة خالقنا لنا تصلنا واضحة جلية لتحقق مبتغاها وغايتها.. 
بل قد يكون ما يظنه أهل الأرض مرضاً إنما هو علاج من الله للمرض الحقيقي العضال الذي استشرى في الأرض وأفقد الإنسان إنسانيته، بل وقد يوقظ الله به قلوباً كانت في سبات عميق أو غفلة طويلة ويحيى به قلوباً ظننا أنها ماتت ودفنت منذ زمن بعيد. 

"يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ"

عندما ندرك أننا نحن الذين أصبحنا المرض الذي أصاب الأرض.. 
وعندما يستيقظ إنسان اليوم من غفلته وسكرته.. 
وعندما نبدأ في إصلاح ما أفسدناه كلٌ في دائرة تأثيره..
وعندما تعود لنا بعض إنسانيتنا ورحمتنا ببعضنا بعضاً. 
عندها فقط نكون قد نجحنا في الاختبار وحوَّلنا المحنة إلى منحة ورضا للخالق عنا فيُرفع عنا البلاء باكتشاف لقاح أو دواء.. أو بأية صورة سبحانه يشاء. 

(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ). 

(مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا). 

 

وليد أحمد حسن فتيحي 
الثلاثاء 24 مارس 2020 م
29 رجب 1441 هـ

 

احصل على الرعاية الصحية المناسبة لك ولعائلتك

(السبت - الخميس من الساعة 08:00 صباحاً إلى الساعة 10:00 مساءً)